الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد فنّده بعض العلماء لوجوه:(1) إن الهم لا يكون الا بفعل للهامّ، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تنهم به، وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه.(2) إن يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه همّا لها، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته.(3) إنه لو وقع ذلك لوجب أن يقال: {ولقد هم بها وهمت به} لأن الهم الأول هو المقدم بالطبع وهو الهم الحقيقي والهم الثاني متوقف عليه.(4) إنه قد علم من هذه القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما ومصرّة عليه، فلا يصح أن يقال إنها همت به، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، بل الأنسب في معنى الهمّ هو ما فسرناه به أوّلا، وذلك لإرادة تأديبه بالضرب.وقد روواهنا أخبارا من الإسرائيليات عن تهتك المرأة وتبذلها مما لا يقع مثله من أوقح الفساق الذين تجردوا من جلابيب الحياء فضلا عمن ابتلى بالمعصية أول مرة من سليمى الفطرة الذين لم تغلبهم ثورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وحيائهم من نظر ربهم إليهم: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} أي جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف عنه دواعى ما أرادت به من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء- بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه، حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو في رده عليها بأنهم لا يفلحون، وقال: لنصرف عنه السوء والفحشاء، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء، لأنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما.{إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي إنه من جماعة المخلصين وهم آباؤه الذين أخلصهم بهم وصفّاهم من الشوائب وقال فيهم «وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ».{وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي تسابقا إلى الباب ففر يوسف من أمامها هاربا إليه طالبا النجاة منها مرجحا الفرار على الدفاع الذي لا تعرف عاقبته، وتبعته هي تبغى إرجاعه حتى لا يفلت من يدها، وهى لا تدرى إذا هو خرج إلى أين يذهب، ولا ماذا يقول ولا ما يفعل؟ لكنها أدركته.{وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي جذبته من ردائه وشدت قميصه فانقدّ.{وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ} أي وجدا زوجها عند الباب، وقد كان النساء في مصر يلقبن الزوج بالسيد، ولم يقل سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعى، وهذا كلام ربه العليم بأمره، لا كلام من استرقّه.{قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي وحينئذ خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة من جرمها وقاذفة يوسف: ما جزاء من أراد بأهلك شيئا يسوءك صغيرا كان أو كبيرا إلا سجن يعاقب به، أو عذاب مؤلم موجع يؤد به ويلزمه الطاعة.قال الرازي: وفى هذا القول ضروب من الحيل.(1) إيهام زوجها أن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوءها ويسوءه.(2) إنها لم تصرح بجرمه حتى لا يشتد غضبه ويقسو في عقابه. كأن يبيعه أو يقصيه عن الدار، وذلك غير ما تريد.(3) إنها هددت يوسف وأنذرته بما يعلم منه أن أمره بيدها ليخضع لها ويطيعها.(4) إنها قالت. إلا أن يسجن والمراد منه أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخويف فحسب، أما الحبس الدائم فكان يقال فيه: (يجب أن يجعل من المسجونين) ألا ترى أن فرعون حين هدد موسى قال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.وجملة القول في هذا- أن يوسف عليه السلام كان قوى الإرادة لا يمكّن غيره أن يحتال عليه ويصرفه عن رأيه ويجعله خاضعا له، ومن ثم لم تستطع امرأة العزيز أن تحوّل إرادته إلى ما تريد بمراودتها، ولا عجب في ذلك فهو في وراثته الفطرية والمكتسبة ومقام النبوة عن آبائه الأكرمين، وما اختصه به ربه من تربيته والعناية به وما شهد له به من العرفان والإحسان والاصطفاء، وما صرف عنه من دواعى السوء والفحشاء- في مكان مكين وحرز حصين من أن تتطلع نفسه إلى اجتراح السيئات، وارتكاب المنكرات، فكل ما صوّروه به من الصور البشعة الدالة على الميل إلى الفجور إنما هو من فعل زنادقة اليهود، ليلبسوا على المسلمين دينهم، ويشوّهوا به تفسير كلام ربهم ولا يغّرّنك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة والتابعين فهى موضوعة عليهم، ولا ينبغى أن يعتدّ بها، لأن نصوص الدين تنبذها، إلى أنه من علم الغيب في قصة لم يعلم اللّه رسوله غير ما قصه عليه في هذه السورة، وكفى بهذا دلالة على وضعها. اهـ.
فإِن جعلتها اسما شدَّدتها، قلت: كتبت قَدّا حسنة.وكذلك كى، وهو، ولَوْ، لأَنَّ هذه الحروف لا دليل على ما نقص منها، فيجب أَن يزاد في آخرها ما هو من جنسها ويدغم، إِلاَّ في الأَلف فإِنَّك تهمزها.ولو سمَّيت رجلا بـ (لا) و (ما) ثم زدت في آخره أَلِفا همزت؛ لأَنك تحرك الثانية، والأَلف إِذا تحركت صارت همزة.فأَمَّا قولهم: قَدْك بمعنى حسبُك، وقدنى بمعنى حَسْبى، فاسم، تقول: قَدِى وقَدْنى أَيضًا بالنون على غير قياس؛ لأَنَّ هذه النُّون إِنَّما تزاد في الأَفعال وقاية لها، مثل: ضربنى وشتمنى.قال ابن عَتَّاب الطَّائىّ: وفى رواية أَبى زيد في نوادره: وقد: كلمة لا يكون الماضى حالا إِلاَّ بإِضمارها أَو بإِظهارها معه، وذلك مثل قول الله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، لا يكون: {حصرت} حالًا إِلا باضمار قَدْ، فيكون تقدير الكلام: حَصِرةً صدورهم.وقال الفرَّاءُ في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا}، المعنى: وقد كنتم، ولولا إِضمار قد لم يجز مثله في الكلام؛ أَلا ترى أَنَّ قوله تعالى في سورة يوسف: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} معناه فقد صدقت.وأَمَّا الحال في المضارع فشائعة دون قد ظاهرة أَو مضمرة.وقَدْ تقرِّب الماضى من الحال، إِذا قلت قد فعل، ومنه قول المؤذِّن: قد قامت الصَّلاة.ويجوز الفصل بينها وبين الفعل بالقَسَم، كقولك: قد واللهِ أَحسنتَ، وقد لعمرى بِتُّ ساهرا.ويجوز طرح الفعل بعدها إِذا فُهِم كقول النابغة الذبيانىّ: أَى كأَن قد زالت.وإِذا دخلت قد على فعل ماض فإِنما تدخل على كلِّ فعل متجدِّد، نحو قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}، ولذلك لا يصحّ أَن تستعمل في أَوصاف الله تعالى الذاتيَّة، نحو قد كان الله عليمًا حكيمًا.وقوله: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى} متناول للمرض في المعنى؛ كما أَن النفى في قولك: ما علم الله زيدا يخرج، وهو للخروج، وتقدير ذلك: قد يمرضون فيما علم الله، وما يخرج زيد فيما علِم الله.وإِذا دخل قَدْ على الفعل المستقبل من الفعل فذلك الفعل يكون في حالة دون حالة، نحو: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ} أَي قد يتسلَّلُون فيما علم الله.والله أَعلم. اهـ.
|